الطفل والعصفور
عصفور صغير محبوس في قفص مدلى من سقف غرفة نصفها مهدم ، تتبين معالم المكان
، حيث البيوت المهدمة والجثث المتفحمة المتناثرة ، وأصوات بكاء وعويل
تختلط بأصوات بقايا قصف ، العصفور يغرد أغنية حزينة ... يدخل الطفل بعد
برهة وفي يده شيئاً من الحب .. يتوقف العصفور عن الغناء ، يخرجه الطفل من
قفصه ويضعه على كفه ليطعمه .. يتحسس ريشه
الطفل : صباح الخير أيها العصفور الصغير .. لقد أتيتك بطعامك من بقايا دارنا .. هل أزعجك القصف ؟
العصفور : ( يكسر الحب حزيناً ) صباح السجن والقيد .
الطفل : السجن والقيد ؟ أنت تسكن أجمل قفص عصفور في الحي ؟
العصفور : لم يعد لكلامك معنى ، لا حي ، بل بقايا دور .. ولكن حتى لو
أسكنتني قفصاً باتساع غرفتك ، أو باتساع حيكم ، فسيكون سجناً وقيد .
الطفل : كنت تأكل أفضل الحب ، تتدفأ في قفصك من برد الشتاء .. وتتقي البرد والريح به .. وتنأى عن حر الصيف .
العصفور : ولكنني أغرد وحيداً .. والوحدة سجن .
الطفل : ( بحزن ) وأنا مثلك في سجن كبير .. يقيدنا حظر التجوال ، والحواجز
.. ونقاط التفتيش ، يقيدنا الاحتلال ودباباته .. والقصف والنار التي لا
تنتهي .
العصفور : لكن حريتي بيدك .
الطفل : وحريتي ؟!!
العصفور: ليس لي يدُ في حريتك أو قيدك .. هبني حريتي ولا تكن كسجانيك .
الطفل: إذاً أنت ترغب في الرحيل عني .
العصفور : كما ترغب أنت في الرحيل عن سجنك الكبير .
الطفل : ( يضع العصفور عند حافة الجدار المتهدم ) بل أرغب في رحيل السجانين .. وكسر القيد .
العصفور : والآن ؟ .. ( بتوسل ) ألن تهبني حريتي ؟!
الطفل : سأهبها لك .. لكن بشرط .
العصفور : ( يتعد قليلاً عن الطفل ) شرط ؟!
الطفل : أن تعيرني جناحيك .
العصفور : ( خائفاً ) وكيف أطير بدون جناحين ؟!
الطفل : منذ بداية الزغب على جسدك .. منذ اكتسى هذان الجناحان ريشاً ( يتحسس الجناحين بلطف ) وأنت تطير .. أما سأمت الطيران ؟!
العصفور : إذا سأمت وجودك .. سأسأم الطيران .. الطيران هو حياتي .. لن أكون عصفوراً دون جناحين .
الطفل : جرب أن تسير على الأرض .. تمسك بترابها .. لن تنتزعك الأرض من مكانك .. كن كما نحن .. وأكون كما أنت .
العصفور : ما حاجتي بالبقاء على الأرض وأنا خلقت بجناحين يأخذاني إلى
البعيد .. السماء الكبيرة وطني .. ( بحزم ) البقاء في قيدك أهون علي من
فقدانهما .
الطفل : ( يغريه ) سأهبك حريتك .. اذهب أنى تشاء .. كل كيف تشاء .. الأرض واسعة .
العصفور : ( يطرق حزيناً ) لا أظنك تحبني ..
الطفل : لو لم أحبك لما أبقيتك معي .
العصفور : إما أن أكون سجيناً مقيداً .. أو أكون عصفوراً بلا جناحين !!
الطفل : أعرني جناحيك لساعة واحدة فقط .. سأعيدهما إليك .. فأنت لن تكون حراً بلا جناحيك .
العصفور : ساعة واحدة فقط ؟ .. ولمَ ؟!
الطفل : ( يقلد وضعية الطائر ) لأحلق عالياً .. أرى مدينتي من البعيد
والحواجز تحيطها .. أرى أشجار الزيتون نقاطاً خضراء .. أرى بيتي شكلاً بلا
معالم .. أرى بيوت جيراني كأوراق الخريف اليابسة .. أرى الدبابات تقصف الحي
والميت .. فأتمنى أن أمتلك كل قوى العالم لأعيد مدينتي جميلة ، طاهرة من
الذئاب المسعورة التي تجوب السكك .. ( تنهمر الدموع على خديه ، يمسحها بطرف
كمه .. ويسير ناحية العصفور المطرق ) أنا شريكك في الوحشة والقيد .. أنت
صديقي ، فلم يعد لي أصدقاء .. كل أصدقائي رحلوا .. فارس ، محمد ، إيمان ..
وأمي سقطت بالأمس بقذيفة .. كانت تهرب من القصف وأخي الصغير بين يديها ..
كانت تمسك بيدي .. فلت .. أصابتها القذيفة .. رحلت هي وأخي ، كان كفرخ
عصفور .. لم يكن له جناحان .. لم يكن لأمي جناحان .. لم يكن لفارس وهو
يتحدى الدبابة جناحان .. لم يكن جناحان لمحمد وهو يتقي بظهر أبيه ، لم يكن
لإيمان ، ولأحمد .. لم يكن لهم كلهم جناحان .. ولكل الجثث التي تملأ
الساحات ، والدور المهدمة .. لم يكن لجنين جناحان تحلق بهما للبعيد .
العصفور : ( حزيناً ) كنتم ستملأون الدنيا بالأغاريد .
الطفل : ( والدموع تملأ مقلتيه ) كنا سنبني أعشاشنا على غيمة حب .
العصفور : ( يخلع جناحاه .. يعطيهما للطفل ) .
الطفل : ( يرتدي الجناحين الصغيرين سعيداً ) سأحلق عالياً .. أحلق حيث
زنزانة أبي .. أطل من نافذتها لأراه وفي عينيه حدود الوطن .. وفي كفيه حفر
التراب معالم الخصب .. أغني له أغنية اللهفة :
أرافق فيك جذوري
وارحل ممتلئاً بامتداد الأماني
لأمعن في طلقة تشتهيني
وها وطن في يتكئ الآن فوق جراحي
يجئ إليك
ويكشف سر الحياة الذي لا يغادر عينيك
أنت الصباح المضرج بالطيبة القروية
والكرم حين تضئ العناقيد
حين يمر شهيد
سبع زنابق توقد في صدر أمي
بساتينك الطيبة !
وثمة صمتٌ يهب على خطوتي المتعبة
كأن العصافير تشتعل الآن في لغتي
والهواء يغرب في رئتي
سأقاسمك الآن صوتي
وأنمو على شفتيك
وحلمي
وأكبر في مقلتيك
وحزن البيوت القتيلة
ثم أحج إليك*
يأخذني في حضنه ساعة فنفرش الوطن بالأخضر .. كان أبي فلاحاً يعشق الأرض .. ويعشق الزيتون وشجره الغض .. كان يحاربهم بالشجر .
العصفور : والآن .. حاول أن تطير !
الطفل : وأنت حرُ .. ساعة واحدة وجناحاك بين جنبيك .. والآن امش كما نمشي ، والتقط حب الأرض .
العصفور يمشي .. والطفل يرف بيديه وجناحيه الضئيلين .. ويمشي العصفور ..
يتخطى بقايا الدور .. بقايا الجثث .. يلتقط الحب .. والطفل يقفز ، يحاول
الطيران أو الارتفاع .. يركض ، يصعد على صخرة ويقفز .. والعصفور يلتقط حباً
محروقاً ، شظايا ، زجاجاً متناثر .. يسقط الطفل على الأرض ، وينهض ، يحاول
الطيران ثانية ، فيقع .. يلتقط العصفور بقايا وطن .. ويمشي منكسراً ، يبحث
عن حب .. والطفل يرتفع ؟ ، لم يرتفع الطفل .. دبابة تقترب من العصفور
المنهمك في التقاط الحب .. يراها تقترب .. يركض .. يتعثر .. يقوم .. ويتعثر
والدبابة تقترب .. الطفل يحاول الطيران .. ويكبو .. فجناحاه صغيران ..
يغيب العصفور تحت جنزير الدبابة .. والطفل لم يحلق بعد..
منقول من قصيدة ( أتابع فيك نهاري )
من ديوان ( المطر في الداخل )
لإبراهيم نصر الله .